الجمعة، 9 يونيو 2017

حربٌ جديدة



8- 8 – 1988 يوم الأيام 

ليس هذا وقت الدموع ، إنه وقت حمل الأمانة وتسليمها لأهلها ، 8 سنوات مرت عشتها مع ثائر الأخ والصديق والأهل بعد أن قضت الحرب على آخر فرد من عائلتي في "مندلي" وهجرها من بقي من أهلها إلى أصقاع البلاد، فصرتُ وحيداً إلا من ألمي والفراغ، نعم أنا المهجور الذي هاجر مدينة الخراب إلى أرض المعركة لا أدري هل كنت أبحث عن وطني هناك ؟ أم كنت أبحث عمّن يرسل بي إلى أهلي الذين قتلتهم نيران العدو ؟ أم تراني كنت أبحث عن انتقام شرعي ممن جعلني هكذا؟ 
وجدت ثائر الذي أحمله بين يدي اليوم وقد غسلته دماءٌ لم تلوثها جحيم المعركة ، كان قلباً كبيراً يسع العالم كله ، و كنت واحداً من هذا العالم في قلبه ، أنقذني من الموت ست مرات ، وكلما عاتبته قال لي " إن لم يكن لك أهل يحزنون عليك فأنا أهلك وسأحزن عليك " أذكره كلما نزل في أجازة إلى أهله أوصاني بنفسي قائلاً " لا تَمُت في غيابي فأنا وكل العراق أهلك وسيحزننا غيابك ، كن شاهداً على انتصارنا لا شهيداً يفارقنا ، سأعود بعد أيام قلائل وسنحتفل بانتصارنا معاً أنا وأنت وكل العراقيين ، وبعد انتصارنا ستعود معي إلى أهلي وأهلك في بغداد ولن تكون وحيداً بعد الآن " .. آه يا ثائر لقد وفيتُ لك بوعدي فأين وعدك ؟ ها أنا اليوم أحملك بين ذراعي وأسير في طرقات بغداد التي تكتظ بالشعب العراقي، يبدو أنه لم يبق أحدٌ في بيته اليوم ، إنهم يحتفلون بانتصارنا وبشهادتك أيها البطل ، هاهم يحملون معي نعشك على الرؤوس ويربتون على كتفي ويهنئوني بالانتصار العظيم ، والأغاني والأهازيج العراقية وبيان البيانات يصدح من كل مكان بصوت مقداد مراد، من المقاهي والمحلات والسيارات والبيوت :
" أيها الشعب العراقي العظيم يا أبناء أمتنا العربية المجيدة ، أيها الرجال النشامى في قواتنا المسلحة الباسلة ، إنه يومكم اليوم ، إنه يوم الأيام وهو في ذات الوقت بيان كل البيانات ، في هذا اليوم صدر إعلان وقف إطلاق النار ، وقد حدد يوم الوقف الرسمي لإطلاق النار في العشرين من آب عام 1988 " 
ها أنا اليوم أسير ومعي الشعب العراقي كله نزفّك إلى أهلك وإلى مثواك الأخير وقد اختلطت علينا دموع الفرح والحزن معاً ، ها قد وصلنا يا ثائر إلى بيتك وها هي أمك الثكلى تستقبلنا بالزغاريد والدموع معاً ، وها هي زوجتك وأولادك حيارى بين البكاء والفرح وأنا أقف حائراً بما عليّ قوله لهم !! أأُهنئهم بانتصارنا وشهادتك أم أعزّيهم لفراقك ؟ ماذا عليّ أن أقول لهم وأنا لا أدري ماذا أقول لنفسي ؟ 
مررتُ على رجل أخرق الثياب عند عودتنا من مثواك الأخير، كان حزيناً ويبدو عليه الغضب من فرح العراقيين بانتهاء الحرب ، يقولون إنه رجل مجنون ، حملني الفضول لا أعرف ما الذي يغضبه من انتهاء الحرب !!
اقتربتُ منه كي أسأله فبادرني هو بالقول " أنت جندي عائد من الحرب ، ثيابك تقول هذا ، تحتفلون بانتهاء الحرب ولا تدرون أنها قد بدأت اليوم ، الحرب.. الحرب يا مجانين بدأت اليوم ، الحرب التي ستحرق الأخضر واليابس بدأت اليوم " صمتَ قليلاً وقال موجهاً إصبعه لي بالاتهام " أنت ستكون واحداً من المجرمين ، ستحرقون الأخضر واليابس يا كفرة ، ستحرقون الأخضر واليابس يا كفرة " !!
كلماته أشعلت في داخلي حرب أخرى وشعور لم أفهم معناه ، لكنني أستشعر صدق مقولته يا ثائر ، لذا سأهرب ، سأرحل تاركاً هذا الوطن الذي طلما دافعنا عنه سويّاً، لقد أصبحت فيه من بعدك يتيماً من جديد ولن أحتمل أن تصدق نبوءة هذا المجنون عليّ ، لقد عشنا معاً أبطالاً ولن أستبدل البطولة بالجريمة . 
ـــــــــــــــــــــــــــ


نشرت في صحيفة #الحياة_اللندنية 
بتاريخ 7 فبراير2017 
رابط القصة في الحياة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أتدري ؟
تعليقك على هذه التدوينة بالسلب أو الإيجاب هو ما يجعل لكلام المشخصاتية قيمة :)